عندما أعطى الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمر تنفيذ عملية إغتيال اللواء الإيراني قاسم سليماني، كان يريد أن يُرسل للداخل الأميركي إشارة توحي بمدى قدرته على إتخاذ قرارات عسكرية قوية، بما يعني أنه ليس رجل إقتصاد وأعمال، بل رجل حرب ايضاً يستطيع الحفاظ على مصالحهم. هو إختار أهم قائد ميداني للمحور المناوئ للأميركيين في الشرق للنيل منهم في مرحلة سياسية فاصلة اميركياً في زمن الإنتخابات الآتية بعد أشهر، وخارجياً حيث يخوض لعبة "صفقة القرن" لصالح إسرائيل. يستطيع أن يتباهى ترامب في حملاته الإنتخابية أنه تخلّص من زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، الذي يشكّل رمزاً للجهادية السنّية، وأنهى سليماني الذي يشكلّ رمزاً عند الشيعة وحلفائهم.
لكن ترامب أخفى خلف قراره ايضاً عنصراً مهماً: تقليم أظافر إيران إستباقاً لأي تسوية محتملة، بات يطالب بها على قاعدة مشروع إتفاق سياسي جديد مع طهران يختلف عن الإتفاق الذي أعدّه سلفه باراك اوباما. هو ما ألمح إليه فعلاً في مضمون كلامه أمس.
تختلف حسابات ترامب عن جدول أعمال الإيرانيين الذين فاجأوا العالم بردٍ عسكري ضد الأميركيين، هو الأول من نوعه. لم يسبق ان قامت دولة منذ الحرب العالمية الثانية بإستهداف قاعدة أو مركز عسكري أميركي كما فعلت طهران، كما لم تُقدم أي دولة في الإقليم سابقاً على تحدّي الدولة الأقوى في العالم.
نفّذ الإيرانيون بأنفسهم ومن اراضي الجمهورية الإسلامية تهديد طهران، بغض النظر عن حجم الخسائر البشرية أو المادية. المهم ان الرد حصل بإرادة وتصميم واضح، من دون اي قدرة للقاعدة الأميركية الكبرى في العراق على صد أي صاروخ إيراني.
سكتت واشنطن، ولم يستطع ترامب أن يبرر خطوة الرد الإيراني الخطير، فزاده الطلب من "الناتو" الفاعلية إرباكاً في جبهته. مما يعني أن إيران فرضت نفسها قوة إقليمية تجابه قوّة عالمية. لذلك ستحسب كل الدول للجمهورية الإسلامية حساباً مخيفاً بعد الآن، و خصوصاً الدول الإقليمية التي لمست شجاعة إيرانية قد تقود طهران إلى ضرب أي قاعدة او مركز او هدف إقليمي.
هنا ستنصرف طهران الى التفرج على مجموعات حليفة تمارس الهجمات العسكرية على القوات الأميركية في العراق وشرق سوريا تحديداً، وصولا الى تحقيق هدف إخراج الأميركيين من المنطقة. وهو المطلب الأساسي لإيران الذي وضعته طهران كردّ على إغتيال سليماني. لن يتحمل ترامب مشاهد الهجمات على قواعد ومصالح عسكرية لبلاده. قد يضطر الى تسريع عقد اتفاقيات تقوم على اساس الإنسحاب العسكري المتدرّج الآمن.
بات موقف طهران أشد، بعدما نالت تأييداً شعبياً واسعاً أظهرته المشاركة المليونية الجماهيرية في تشييع سليماني.
تخفي إيران رغبة بالوصول الى حلول، لكنها تريد ان تفاوض عليها من موقع القوّة لا الضعف. فهي تشترط اساساً، وقبل اي أمر رفع العقوبات الإقتصادية والمالية عنها، قبل الحديث بشأن أي طرح. ثم رفض جدول الاعمال الترامبي القائم على أساس مصالح إسرائيل. مما يعني ألاّ وجود لصفقة القرن. كما تخفي ايران رغبة بعدم الدخول في اي مفاوضات مع إدارة ترامب، كي لا تعطيه مكاسب تخوّله الفوز في الانتخابات الأميركية. يبدو ان الإيرانيين درسوا كل السبل لعدم إهداء ترامب أي هدية تؤازره في انتخاباته المقبلة. بعدها ستتوضح الصورة ويفرض الإيرانيون شروطهم مع إدارة أميركية آتية.
كل المعطيات تؤكد ان الأميركيين والإيرانيين يخفيان قرار عدم الحرب المفتوحة. لا مصلحة للفريقين بتلك الحرب. لكن ذلك لا يمنع ان تتكرر الضربات بالإتجاهين. اذا كانت طهران تتحمّل سياسياً وتمتص تداعيات أي ضربة ضد مصالحها، فإن واشنطن لا تقدر على التفرّج طويلاً على جنودها المهدّدين بنقلهم أفقياً الى الولايات المتحدة.